فرعون الكاتب والإنسان
»إن مصرعه التراجيدي أصاب في صميم القلب كل الذين كانوا يكافحون في سبيل التقاء الناس ذوي الإرادة الطيبة··· »·
جون ديجو
قبل أربعة أيام من توقيع اتفاقيات إيفيان التي وضعت حدا نهائيا للحرب الملتهبة في الجزائر، وبالضبط في 15 مارس ,1962 حاصر كوموندوس مكوّن من ستة إرهابيين مقر المراكز الاجتماعية بالأبيار، ثم أخرج بطريقة عسكرية ستة أشخاص (ثلاثة جزائريين وثلاثة أوروبيين) وأمرهم بالوقوف إلى الحائط، قبل أن يفرغ رصاص رشاشته في أجسادهم البريئة· وكان آخر من سقط مولود فرعون، بعد أن اخترقته اثنتا عشرة رصاصة وكانت الجريمة موصوفة تحمل توقيعا واضحا: المنظمة الإرهابية السرية O.A.S·· هكذا انطفأت حياة مولود فرعون، ولم يكتب له أن يشهد استقلال بلاده، ودفن عشية وقف إطلاق النار·
وقد أثار هذا الاغتيال الغادر والجبان استياء كبيرا في أوساط الرأي العام الجزائري والأوروبي، إذ لم يكن أحد يتوقع لمولود فرعون أن ينتهي هذه النهاية البشعة· لأن فرعون، إضافة إلى كونه كاتبا مشهورا، كان »إنسانا أبيا ومتواضعا وطيبا، لم يسئ لأحد أبدا، وكرّس حياته للصالح العام » (جرمان تيليون)، وكان صاحب »استقامة صارمة » (جيل روا)، ومعلما »هادئا شديد التعلق بالنزعة الإنسانية··· يؤمن إيمانا راسخا بالتقارب بين الشعوب عن طريق الثقافة » (ألبير ميمي) وكان »كريما وحذرا » (الخطيبي)، »يشهر إيمانه في الإنسان رغم جنون الرجال· وكان يتحدى العبث بالصلابة »(إيدوارد غيتون)·
من الصعب، حقا، الفصل بين فرعون الأديب وفرعون الإنسان· فقد كانت رؤيته الفنية وثيقة الارتباط بموقفه كإنسان وكمواطن· وكان الجامع بينهما هو الصدق والنزاهة· وإذا كان الصدق الفني في مؤلفات فرعون مسألة لا يرقى إليها شك، ويحسب له لا عليه، فإن مواقفه السياسية والاجتماعية أثارت في حينها، ومازالت تثير إلى اليوم، جدلا لا ينتهي· وإن كان عامل الزمن قد تكفل بالبرهنة على أن مولود فرعون كان بعيد البصيرة، وإنه لم يكن مخطئا تماما في الكثير مما قاله، وما اعترف به·
كان مولود فرعون ينبذ العنف مهما كانت مبرراته، ولم يكن في البداية ينظر إلى الاستقلال الوطني كهدف حتمي لنضال الشعب من أجل كرامته وحريته· إلا أنه كان يدرك، في الوقت نفسه، تفاقم أزمة النظام الاستعماري· ومذكراته خير دليل على ذلك· هذه المذكرات هي في نفس الوقت، شهادة نزيهة ونبيلة على تردده وحيرته لأنها تقدم لنا شكوكه المؤلمة، ورؤيته الخاصة للأحداث العنيفة التي هزت وطنه في ذلك العهد من المحن القاسية· هي صرخة ضمير حي ومتألم، يرفض تبرير الأهداف والوسائل المرتبطة بالعنف وإراقة الدماء، ولا يتقبل موت الأبرياء في سبيل قضية ما، حتى ولو كانت هذه القضية عادلة·
إن مفهوم الحرب العادلة عند فرعون مفهوم معاد لجوهر الإنسان·
في أوج الثورة الجزائرية، شغل فرعون منصب مستشار بلدي· وبهذه الصفة كان من مستقبلي فرنسوا ميتران، وزير الداخلية آنذاك· وقاما معا بجولة في بعض بلديات القبائل وقراها· كما كان فرعون على اتصال بالمجاهدين· وحين انتقل إلى الجزائر العاصمة، اتصل بالحزب الاشتراكي الجزائري، ثم انضم إلى فيدرالية الليبراليين، التي كانت تطالب بإلغاء النظام الاستعماري، وتدعو إلى الحوار بين المتحاربين من أجل وضع حد للنزاع المسلح· في سنة 1957 نشر الكاتب روايته الثالثة »الدروب الصاعدة » التي أثارت استياء العديد من المثقفين، لأنها صدرت في وقت غير ملائم· وقد انتقده بعنف الكاتب ماشينو في المجلة المغربية »الديمقراطية » بقوله: »في الوقت الذي يقوم فيه المثقف الجزائري بالثورة إلى جانب رفقائه، يكتب مفكر القرية الصغير يومياته »الدروب الصاعدة »· كلا إنها دروب منزلقة!··· منزلقة بتوءدة نحو الهاوية···؟ »· وقد شعر فرعون بهذه الهاوية، واعترف بتسرعه وخشيته أن يبدو في أعين مواطنيه، الذين يتعذبون ويكافحون، جبانا يخاف انتظار الحقيقة· كتب عنه صديقه الأديب جون بليغري »إنه حتى النهاية لم يتقبل الحرب، ولم يتخط بغضه لها، وكان يتطلع دوما إلى الحوار فقط، وإلى التقاء الناس من ذوي الإرادة الطيبة، وإلى الأخوة الإنسانية »·
وفي تلك الفترة بدأ فرعون يتلقى رسائل مجهولة تهدده بالموت· ولم يكن يخشى ذلك، كان يقرأها بكل شجاعة وإباء· ونرى ذلك جليا فيما كتبه في جانفي 1957: »أعترف أنني ربما مت اليوم، أو أعدمت غدا· وأعرف أنني أنتمي إلى شعب عزيز النفس عظيم· وأعرف أنه الآن ينفض دهرا كاملا من السبات، أغرقته فيه هزيمة غير مستحقة· لكن لا شيء اليوم يعيده إليه »· وكانت هذه الكلمات بمثابة رؤية تنبؤية· فبعد خمس سنوات، وبالضبط في 15 مارس ,1962 واجه مولود فرعون الموت بإباء وشهامة، وهو مسند إلى جدار· وفي 05 جويلية سطع نور الاستقلال على الجزائر·
22 janvier 2010 à 0 12 16 01161
Merci Mouloud Feraoun.
William Hill