»الكتابة فعل تجاوز·· أنتمي إلى تلك الفئة من الكتاب المناضلين· لا يمكن تجاهل المأساة، الظلم، الفساد··· »· هكذا أعلن رشيد ميموني نفسه كاتبا حرا غير مروّض، ولا يقبل بسياسة التدجين التي عكفت الدولة على التكريس لها منذ فجر الاستقلال· كتب ميموني عن هؤلاء البسطاء في القرى النائية، كتب عن الدكتاتوريات التي تقهر الشعوب، كتب عن المنافقين الذين أعلنوا أنفسهم أولياء على أبناء الشعب البسطاء· كان الكاتب الذي قاطعته الدولة واتهمته بالعمالة· وبالفعل، لم تخطئ الدولة في اتهامها، لأن رشيد ميموني كان عميل الكتاب الأحرار الذين يرفضون المساومة·
وسيلة بن بشي
عاد الحديث هذه الأيام عن الأديب الراحل رشيد ميموني· وحتى نكون أكثر دقة العودة إلى استنزاف اسمه واستغلال كتاباته في ملتقيات رسمية لن تفي هذا الكاتب حقه، لأن الرجل كان أكبر من أن يختزل في مداخلات، عفوا، جوفاء، لن تعي حجم تلك الشخصيات البسيطة التي طالما نامت بسلام بين طيات كتب ميموني الوحيد، الذي عرف كيف يوقظها بقلمه ويمنحها أصواتا لتصرخ عاليا في وجه هذا المجتمع المنافق·
رشيد الذي ولد في بودواو التابعة لولاية بومرداس حاليا عام 5491 لأب فلاح، يقول عن تجربة الكتابة لديه فى أحد الحوارات التي أجريت معه في بداية التسعينيات: »لقد كان لي الحظ عندما أصر ولدي على إرسالي للمدرسة· أنوه المدرسة الفرنسية، لأن المسألة لم تكن سهلة في الماضي، فالأطفال الجزائريون ليس لهم الحق في الذهاب إلى المدرسة· كان والدي يصر على أن أنهي دراستي »· إصرار والده على الذهاب إلى المدرسة لم يكن بريئا لأنه كان بالنسبة له، حسب ما يقر ميموني، نوعا من الانتقام من وضعيته كفلاح لا يقرأ: »لقد بدأ والدي يعمل في سن مبكرة، في وقت كان يجب أن يذهب إلى المدرسة· كان يمارس أعمالا شاقة، لقد فهم والدي مدى صعوبة الأعمال اليدوية· ولهذا لم يرد أن يؤول مصير ولده نفس المآل »·
لقد كان اهتمام ميموني بالأدب بشكل عام، والكتابة بشكل خاص، أمرا عرضيا، لأن اكتشاف الكتاب سيكون في ما بعد، خاصة وأنه لم يسبق وأن رأى كتابا واحدا في منزل والده· لكن، عندما اطلع على الآداب العالمية، تولدت لديه رغبة الكتابة، رغم أنه كان يعتقد أن كل الكتاب في عداد الموتى وهو نفسه كان يقول: »كان بالنسبة لي في ذلك الوقت من الصعوبة بمكان أن أتصور كاتبا حيا »· لقد بدأ ميموني بكتابة بعض النصوص بين سن 31 و41 سنة، لينشر بعد ذلك نصوصه الأولى في سن 91 إلى جانب بعض القصص القصيرة في مجلة جزائرية مباشرة بعد الاستقلال، وكان يفعل ذلك سرا·
الكتابة لدى ميموني لم تكن تجميعا لتجربته، لأنه عاش فترة الاستعمار، أي أن الاستقلال أطل عليه وهو على مشارف السادسة عشر ربيعا، خاصة وأنه عاش الاضطهاد مع عائلته خلال عمليات الترحيل والتجميع هنا وهناك· لكن رغم ذلك، ترك الموضوع حتى لا يعطي الانطباع بأنه يقوم بعملية »كاترسيس »، كان يريد أن يكتب عنها بشكل واع كما حدث في مشاكل الجزائر الحالية، ثم إن الكتاب الذين سيقوا كتبوا عن هذه المرحلة، ويقصد فترة الاستعمار· ويواصل حديثه في الموضوع قائلا: »علينا أن نتحدث عن المشاغل الحالية للأفراد، خير لنا من الغرق في عسل الانتصار »·
من بين الهواجس التي يطرحها ميموني بقلق في كتاباته هاجس السلطة والدكتاتوريات· قد يبدو المصطلح كبيرا جدا ولا يتحمله السرد بالمعنى السطحي السياسي الظاهر، لكن الراحل يتعدى هذا الطرح الجاهز إلى ما هو أعمق، من خلال تقديمه لشخصيات ساخرة أحيانا تكون كاريكاتورية، يتدرج معها فعل التسلط بشكل تجعل المتلقي يعي خطورة التسلط الذي قد يختصر في شخصية بسيطة· يقول ميموني في هذا السياق: »السلطة مرض بالطريقة التي تمارس حاليا »، وهو يتفق إلى حد بعيد مع الكاتب الفرنسي سانت جوست الذي قال: »كل الفنون تولد العجائب، ما عدا فن الحكم، فهو يولد وحوشا »· هذه الوحوش تستمد قوتها من تمركز السلطة لديها، فمسألة توزيع السلطة واستقلاليتها يخفف من دكتاتورية السلطة·
وفي هذا السياق، يروي رشيد ميموني لأحد محاوريه تجربته مع هذه السلطة التي لا تهادن المثقف، يقول: »قبل 8891 كنت دائما مدعوا لدى الشرطة مباشرة بعد أي ندوة صحفية أو عقب إلقائي محاضرة، كان عليّ أن أقدم لهم نص المحاضرة، وهذا يقيني شر أسئلتهم »·
ميموني عاش قهر السلطة في تلك اللحظات التاريخية العرجاء، فقد منعت كتبه منها »النهر المحول » و »طومبيزة »· ولم تكتف السلطة بذلك، بل منعت حتى الصحافة الأجنبية التي كتبت عن هذه الكتب الممنوعة· فصحيفة »لوموند » التي نشرت مقالا عن رواية »النهر المحول » منعت في الجزائر· وكتبه الأولى استدعت تحقيقات كاملة من طرف الشرطة، وبحث هؤلاء الدائم كان من أجل فهم سر هذا الناقد اللاذع للسلطة، أي هل يحاول هذا الكاتب المشاغب أن ينتقم لأبيه الذي كان يملك مصنعا وأمّم، أو كانت له أرضا وأمـّمت في إطار إصلاحات الثورة الزراعية؟ أم أن خلف الكاتب أحد المعارضين السياسيين؟ فهم يسألون دائما المحيطين بالكاتب نفس الأسئلة، علهم يفهمون سر تصفية حسابات هذا الكاتب مع السلطة· ويعلق ميموني على ذلك قائلا: »يبحثون عن سبب··· بالنسبة لهم، تأليف كتاب وصناعة الأدب أمر غير مفهوم »· الأمر تكرر مرات عدة، وقد تمادت الرقابة في غيها مع كتابه المعنون بـ »سلام للعيش »، كان على ميموني أن يتفاوض مع الرقابة لمدة ستة أشهر، فقط لأنه تحدث في أحد فصول روايته تلك عن انقلاب الرئيس الأسبق هواري بومدين· والحكاية التي ضمنها الكاتب روايته هي خروج مجموعة من الثانويين متظاهرين اعتراضا على الانقلاب، لقد سجنوا، وهي تجربة عاشها المؤلف· كان من المستحيل ترك هذا المقطع في الرواية·
ميموني الذي خرج من جلباب السلطة منتصرا بعد الثمانينيات، وجد نفسه محاصرا بالمد الأصولي، وهي مأساة أخرى عاشها مع حراس النوايا الذين حاولوا اغتياله ونجا، ليجد نفسه في طنجة، وبعد ذلك يسلم الروح في مستشفى باريسي في 21 فيفري عام 5991. وخلفه العديد من التحف الأدبية، وحي حكايات عن أناس بسطاء وحكايات أخرى عن السلطة والمجتمع المنافق بتقاليده·
كتب العديد من التحف من بينها »سلام للعيش » سنة 3891، ثم »طومبيزا »سنة 4891، ثم »شرف القبيلة » سنة 9891، ثم »حزام السفلة » سنة 1990، وأخيرا »حزن للعيش » سنة 1993.
21 janvier 2010
Non classé