الكاتبة العراقية إنعام كوجه جي لـ »الخبر الأسبوعي » سعر برميل البترول أغلى من سعر الإنسان في بلادي
لقد أحدثت روايتها « الحفيدة الأمريكية » هزة حقيقة في الإعلام وقد ترجمت إلى الفرنسية تحت عنوان « إذا نسيتك يا بغداد » لقد كتبتها » سليلة أرنامو » بكثير من الصدق رغم أنها في باريس منذ أكثر من ربع قرن، إلا أن قلبها كان معلقا دائما في العراق، إنها الدكتورة إنعام كوجه جي التي حدثتنا عن هذا العمل الأدبي الذي كان وسيلتها لفهم الوجع العراقي. هل عندما كتبت عن زينة في روايتك « الحفيدة الأمريكية » تخلصت منها، أو لنقل تخلصت من بعض ذاك الوجع. قبل ذلك هل فيها شيء منك؟
لم أكتب عن نفسي لأن بيني وبين بطلة الرواية تقاطعات تجعل من المستحيل أن نتلاقى على أي صعيد، لا المكان الجغرافي يجمعني وإياها ولا العمر ولا التجارب ولا القناعات. وبصراحة، أجد أن الكتابة عن الضد تغريني أكثر من الكتابة عن المثيل. وآه كم تمتعت بهذا التحدي في كل لحظة من لحظات صياغة الحوارات والمواقف والرغبات. كنت أُريد أن أندس تحت جلدها لكي أعرفها عن كثب، ولكي أحكّ ذلك الجلد بأظفاري، من الداخل، وأستفزها لكي تبوح بدوافعها وتتعرف، هي نفسها، عما فعلته بنفسها وبجدتها العراقية الرافضة للاحتلال وبالناس الذين تشترك معهم في مسقط الرأس.
لماذا البطلة مترجمة في الجيش الأمريكي؟ هل صحيح أنها موجودة في الواقع وتعرفينها؟
لو كان لك معارف مهاجرين في ديترويت أو كاليفورنيا أو شيكاغو لسمعت عشرات القصص من هذا النوع. ولم يعد خافيا أن هناك مئات المترجمين العرب الذين يعملون مع الجيش الأمريكي، من كل الجنسيات والأديان. وهناك الكثير من الشركات المتخصصة في تصديرهم إلى العراق بعقود زمنية متفاوتة وقابلة للتمديد والتجديد. هل جاء هؤلاء من فراغ؟ هل هم مقطوعون من شجرة؟ أطفال أنابيب؟ قلت لنفسي لابد وأن يكون لديهم أقارب ظلوا في العراق ولا تشرفهم هذه العودة. من هنا نبعت فكرة « الحفيدة الأمريكية ».
عادت البطلة من غير تذكارات وتذكارها الأكبر هو الوجع.. كيف تذكرين هذا الوطن النائم على أعرق الحضارات، هل ستشل يمينك إذا أغفلت هذه الملحمة التاريخية المتجذرة في عمق التاريخ قبل جلجامش وحدائق بابل؟
أظن أنني كنت سأُواصل العمل في الصحافة، مهنتي التي أُمارسها منذ قرابة الثلاثين سنة، لو لم يحصل ذلك الزلزال الذي هز بلدي، العراق، وقلب كل المفاهيم والقناعات ومسح حتى الصور التي كنت، وجيلي، قد نشأنا عليها وتصورناها راسخة إلى الأبد. أليس العراق هو أرض الرافدين التي نبتت فيها الحضارات من ستة آلاف عام؟
ماذا فعلت الحروب المجنونة بهذا البلد العريق؟ وكيف جاء الأمريكان ليشجعوا العراقيين على الطائفية والفوضى ومحاصرة المرأة والنهب وانتهاك حقوق الأقليات… وكل الممارسات التي يحرمونها في بلادهم؟ هل سعر برميل البترول أغلى من سعر الإنسان في بلادي؟ كنت أُريد أن أفهم. وما كان بين يديّ سوى الكتابة الروائية وسيلة لاستعادة الوقائع والشخصيات ووضعها الواحدة في مواجهة الأُخرى. لكنني لم أكتب روايات واقعية ولا تسجيلية، رغم أنني تحايلت على القارئ لكي تبدو كذلك، بل حاولت أن أكتب الخيال الذي لا يمكن تصديقه، هذا الذي رأيته بعينيّ يتمشى في شوارع بغداد ويتكلم بلغة أعرف حروفها ولا أفهم معانيها، يوم عدت إلى مسقط رأسي بعد الحرب مباشرة، في صيف .2003
عشت في باريس سنوات توازي سنوات عمري التي عشتها في الوطن. ولم أكن لاجئة ولا منفية. مجرد امرأة بسيطة تحب حريتها وصحافية تريد أن تمارس مهنتها كما يجب. ومن باريس واصلت جس نبض بغداد كل يوم، ولم أتعب ولم أتوقف ولا سلّمت بأنني صرت من أهل هذه البلاد. كم مليون عراقي ترك بيته وأهله وذكريات طفولته وهاجر قسراً أو اختياراً لكي لا يكون ضحية ولا جلاداً؟ أتفرج على دهشة أهل هذه البلاد الأُوروبية الجميلة وهم يطالعون ما كشفته أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية، حول تحرش الستازي بها ومحاولات جرها إلى أن تصبح مخبرة وسط المخبرين في بلادها. العراقيون لا يقرأون هذا النوع من الحكايات بشعور الدهشة لأنه أكثر من عادي. حتى الطفل كان مطالباً بالوشاية. فكم رواية تمكن كتابتها حول الذين ضعفوا وسايروا، أو حول أُولئك الذين رفضوا ودفعوا الثمن؟
إذن التقارير الصحفية أضعف من أن تتحمل هذا الوجع ولهذا تأخرت في كتابة القصة؟
لعلمك فإن مجلة « ألف باء » نشرت أولى قصصي القصيرة وأنا في الخامسة عشرة. وفي سن السابعة عشرة بدأت العمل في جريدة يومية وانتظروا بلوغي السن القانونية لتعييني. ولأنني صحافية فقد كان نفسي قصيراً. أكتب الخبر والتحقيق في المساء وأراه منشوراً في الصباح التالي. أما الرواية فجنس أدبي يستدعي الصبر وانتظار نضوج الحكاية بالاشتغال عليها سنوت. لكن ما مر على العراق أوقد في جوفي ناراً لا تخمد بمقال هنا ومقابلة هناك. ووجدت لديّ مؤونة من التجارب والشخصيات التي تطالبني بحقها في الحياة والحركة والكلام واتخاذ المواقف وتسجيل حكايات الناس الساقطين من تقارير الصحف وكتب التاريخ. جاءت الكتابة الروائية عندما حان وقت حضورها، وكنت قد بلغت الخمسين، وهي سن قد تكون متأخرة لبدء حرفة جديدة، لكن غواية السرد كانت أقوى مني.
بدأت أكتب بعد أن تجاوزت الخمسين. لقد ملأ العمل الصحفي دفاتري بالوقائع والشخصيات والمواقف التي لم يكن مسموحا نشرها. وأشعر أن ذاكرتي مثل السقيفة التي تتكدس فيها الكثير من الكراكيب. وبحماسة الشباب الخالدة التي بحث عنها جلجامش، بطل الملحمة الرافدينية الشهيرة، أقوم بتفريغ سقيفتي وإخراج الأرانب من أكمامي.
وفي النهاية، لست سوى واحدة من حفيدات شهرزاد التي حافظت على عنقها من السيف عبر القص… المزيد من القص.
بعض النقاد يميل إلى أن الفاجعة لا يجب أن تكتب على عجل بل يجب أن ننتظر قليلا حتى نستطيع هضم المأساة وإلا دخل ما يكتب في إطار الأدب الاستعجالي، استطعت أن تكتب عن الفاجعة بطريقة أقرب إلى الكوميدية؟
قد يكون التفجع شيمة الضعفاء. ونحن قوم أقوياء تاريخياً، تأتينا المحن ويخيل إلينا، في برهات من الزمن، أنها القاضية. لكننا نجتازها ونجعل منها « سوالف » للأجيال. كيف تتناولين، بالله عليك، التحولات العجيبة التي حدثت في العراق بدون لغة سوريالية يفرضها الموضوع؟ لن أقول لك كلاماً مكررا عن أن شر البلية ما يضحك، لكنني أسأل: هل تعرفين كم نكتة يخترع العراقيون كل ساعة ويبثونها عبر الأنترنت؟ هل سمعت عن زلزال سحري يحول نصف الناس إلى وعاظ ونصفهم الآخر إلى مهرجين؟ حتى النكت نخرتها الطائفية، لكنها طائفية ديمقراطية عادلة، لا تستثني الشيعة ولا السنة ولا الأكراد ولا أهالي الموصل ولا الرمادي ولا الناصرية.
تم اختيار روايتك « الحفيدة الأمريكية » التي ترجمت إلى الفرنسية، ضمن قائمة أفضل 30 رواية نالت إعجاب أصحاب المكتبات في فرنسا من أصل 659 رواية.. كيف استقبلت الخبر؟ هل كنت تتوقعين ذلك؟
لا كتاب عربياً يلاقي النجاح طالما أن التوزيع محدود ببلد الطباعة وما جاوره، وطالما أن نفقات الشحن باهظة. وإذا كانت هناك مقالات تناولت الرواية بشكل إيجابي، فهذا لأن الكتب ترسل، في العادة، إلى النقاد ومسؤولي الصفحات الثقافية لكنها لا تجد طريقها إلى المكتبات والى عموم القراء العرب. أما إذا رأيت أنت أو سمعت أن الرواية قد نجحت فهذا يسعدني ويعود، في الغالب، إلى موضوعها الساخن. وطبعاً أسعدني أن تصدر للرواية طبعة مغاربية عن منشورات البرزخ في الجزائر. ؟
وسيلة بن بشي
21 janvier 2010
Non classé