يقدم الدكتور عبد العزيز الدوري في كتاب جديد له صادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت »أوراق في التاريخ والحضارة، أوراق في التاريخ العربي الإسلامي » صورة شاملة ومتصلة للأحداث التاريخية عبر بحثه »اليهود في المجتمع الإسلامي عبر التاريخ »، كاشفاً ما لقي اليهود من حرية ورخاء في ظل عدالة المسلمين.
يقول الدكتور الدوري إن الصلات التاريخية بين العرب واليهود قديمة، وهي إن كانت في الغالب سلمية – تجارية أو ثقافية – فإنها مرت بفترات صدام في بعض الأحيان. وليس لدينا معلومات موثقة عن العصور السابقة للميلاد، كما أن الروايات العربية عن اليهود جاءت من الفترة الإسلامية. وقد تأثرت دراسة الصلات بين العرب واليهود قبل الإسلام وبعده باعتبارات دينية آناً، وبظروف اليهود أحياناً. كما أن كثيرا من الأخبار يتعذر إثباتها. ثم إن اليهود الذين تذكرهم التوراة لا يشكلون إلا نسبة متواضعة بين عناصر من أصول بشرية مختلفة يكونون اليهود الآن، ذلك أن اليهودية كانت ديناً تبشيرياً لعصور طويلة.
ويرى الدوري أن المعلومات عن بدايات هجرة اليهود الى الجزيرة العربية غامضة يغلب عليها العنصر القصصي. ويمكن الافتراض أن شمال الجزيرة كان ملجأ لليهود عند تعرضهم للغزو والاضطهاد. وساعد على ذلك خط التجارة القديم غرب الجزيرة بين اليمن والشام. وتتباين الأخبار العربية في بدء الهجرة بين حملة بختنصر وغزو الرومان وفتكهم باليهود بعد القرن الأول للميلاد. وجل هذه الأخبار مأخوذ من يهود يثرب وخيبر.
ولا يمكن الافتراض بأن اليهود جاءوا مرة واحدة. ويبدو أنهم في هجرتهم تابعوا طريق التجارة في غربي الجزيرة، ونزلت جماعات منهم في تيماء وخيبر ووادي القرى ويثرب. ويبدو من الأخبار أنهم كانوا هناك في القرن الثالث للميلاد. وقد اختلط هؤلاء بالعرب وتأثروا بعاداتهم وتنظيماتهم القبلية. ولعل بعضهم اشتغل ابتداءً بالتجارة، ثم صار أكثرهم يعمل في الزراعة عند قيام الإسلام.
ولأن اليهودية كانت تبشيرية، فقد تهوّد بعض العرب في بعض القرى وفي يثرب، ولكن لا دليل على انتشار اليهودية بصورة واسعة بين عرب الحجاز. كما يتعذر قبول ما ذكره اليعقوبي من أن الأكثرية (بني النضير وقريظة) عرب تهوّدوا.
وتُشعر الآيات القرآنية بأن اليهود في شمال الجزيرة كانوا جاليات ليست قليلة العدد، منتشرة في يثرب والقرى شمالها.
ويرد ذكر عشائر عديدة لهم، ولكن الكتلة الكبيرة كانت في يثرب، وفيها ثلاث قبائل: بنو النضير وبنو قريظة، وهما »الكاهنان »، وبنو قينقاع.
وكانوا يسكنون في أحياء خاصة، كما هو مألوف، معزولين عن العرب. واتخذوا في يثرب وغيرها الحصون مثل حصن الأبلتي في تيماء، والوطيح والسلالم في خيبر، ليواجهوا البدو، ويقووا على التحصن فيها والدفاع في الأزمات. وكان التعامل بالربا شائعا بينهم. ولعل البيئة الزراعية في يثرب هيأت مجالا مناسبا لذلك، ولابد من أن آثاره الاجتماعية كانت شديدة. وفي القرآن نقد حاد لذلك. كما ترد الإشارات إلى ما كانوا عليه من أثرة وطمع.
ومع اختلاف في الدين والعقلية بين العرب واليهود، فقد كان هناك شبه في التنظيم الاجتماعي والتكتل القبلي. وقد تأثر اليهود بعادات العرب وأخلاقهم، إذ انتظموا في قبائل وبطون مثل العرب، ودخلوا في محالفات مع الأوس والخزرج، وكل فريق يلتزم بالمسؤوليات القبلية المشتركة، بما في ذلك النصرة في القتال والمشاركة في الديات. وفي بعاث وقفت قريظة وبنو النضير مع الأوس وبنو قينقاع مع الخزرج. واستمر هذا التحالف إلى ما بعد الهجرة، كما يتبين من »الكتاب » الذي وضعه الرسول، صلى الله عليه وسلم، في المدينة لتنظيم العلاقات فيها، إذ ألحق كل جماعة من اليهود ببطن عربي كان حليفه قبل الهجرة، كما اتخذ بعض اليهود القيم العربية مثل التمدح بالشجاعة وإكرام الضيف.
وكانت لغتهم العربية مشوبة برطانة عبرية. وظهر بينهم، خاصة في يثرب، شعراء يجيدون النظم مثل السموأل بن عاديا، والربيع بن الحقيق من قريظة، وكعب بن الأشرف في بني النضير، وأبي الزناد اليهودي وسماك اليهودي.
في عهد الرسول، يقول الدكتور الدوري إن الرسول كان يتوقع ترحيب اليهود ومساعدتهم للمسلمين لأنهم أهل كتاب، فعاملهم بانفتاح ووضع كتابا بين الجماعة الإسلامية وبينهم في المدينة ينظم الشؤون المشتركة، يوجب التساند، في وجه الخطر الخارجي خاصة. ولكنهم سرعان ما وقفوا منه موقفا اتسم بالسلبية وتدرج إلى المقاومة والتأليب. فقد تحدوا الرسول بالمناقشات، وطالبوا بالمعجزات، وأظهر أحبارهم التعنت في الجدل والأسئلة، ثم تدرج الحال إلى الخصومة. وجاء التنزيل يلوم اليهود ويعنفهم، ويندد بمواقفهم مع النبيين بين تكذيب وتعجيز وقتل، وسجودهم للعجل، ويتهمهم بتحريف الكلام عن مواضعه وبتحوير التوراة وبالإضافات فيها.
وبدأ الصراع الفعلي مع اليهود بعد بدر، نتيجة تخوف اليهود من ارتفاع شأن المسلمين. بدأ ذلك مع بني قينقاع، وهم يسكنون داخل المدينة، وكانوا أغنياء وجلهم صاغة، ويعتمدون على مساندة الخزرج، وخاصة على عبد الله بن أبي للحلف بينهم، يعتدون بقوتهم العسكرية، ويفهم من كتب السيرة أنهم بدت منهم بوادر التحدي، ثم التحرش بالمسلمين بخلاف العهد معهم، مما ولّد التخوّف من خطر الخيانة، ولم يلتفتوا الى التحذير فحاصرهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – حتى نزلوا على حكمه وسمح لهم بالهجرة، فخرجوا الى أذرعات بالشام، وأخذ الرسول أموالهــم وأبقى لهم ذراريهم ونساءهم.
أما في أيام »الراشدين »، فقد أجلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يهود خيبر وتيماء الى أريحا، واستند في ذلك الى توجه الرسول: »لا يجتمع في الجزيرة دينان »، ويبدو أن لتصرف بعض أهل خيبر صلة بذلك. هذا، وتتكرر الإشارات الى رأفة عمر بأهل الذمة.
وعلى كلٍّ، وجد اليهود من العرب معاملة أكرم وأفضل مما كانوا يجدون من البيزنطيين والفرس. ففي الإمبراطورية الرومانية تدهور وضع اليهود بعد أن صارت المسيحية الدين الرسمي، وصدرت أوامر الأباطرة وتعليماتهم التي تمنع اليهود من الوظائف ومن إنشاء معابد جديدة، وفي إفريقيا أمر جوستنيان بهدم معابدهم الموجودة وحرّم دراسة القانون وتعليمه. وفي إيران تدهور وضع اليهود في آخر الفترة الساسانية، وتعرض يهود بابل لأزمات قاسية أضعفت مؤسساتهم الدينية والإدارية.
وأخيرا جلبت الحرب بين الساسانيين والبيزنطيين في أوائل القرن السابع كوارث لليهود في الشام.
ويضيف الدكتور عبد العزيز الدوري في كتابه أن الفتوح الإسلامية جاءت بتحسن كبير في وضع اليهود، وأكد الخلفاء ذلك في وصاياهم بأهل الذمة، وتعطي الروايات اليهودية صورة طيبة لنظرة الخلفاء الأوائل الى الجماعات اليهودية، خاصة في العراق. وفي الشام كانت المعاملة حسنة وعومل اليهود السامرة معاملة خاصة لتعاطفهم مع العرب. وكان التزام العرب بالعهود وحمايتهم لأهل الذمة مدعاة احترام هؤلاء ومودتهم، ويلاحظ الدوري بعد ذلك أن الشريعة لا تميز بين اليهود وغيرهم من حيث الوضع القانوني، وهذا يعود الى نظرة الإسلام المفتوحة لأهل الكتاب عامة.
وأخيراً، يقول الدوري إن الثقافة العربية أثرت في اليهود، فاتخذ اليهود العربية، وقد صارت لغة الثقافة لها مصطلحاتها وأساليبها، وكان اتخاذهم لها يعني اتخاذهم لطرق التفكير العربية وتأثرهم بالمفاهيم الإسلامية والأشكال الأدبية، ولم يقتصر أخذهم للعربية على الفعاليات الأدبية، للأغراض العلمية والدنيوية، بل لشرح التوراة والرسائل الدينية والفلسفية، وبتأثير العرب اتجهوا الى دراسة لغتهم، والى وضع قواعد النحو لها، والى عمل المعاجم العبرية، وكان للشعر العربي أكبر الأثر في الشعر العبري وتطوره. اكتسبوا الأوزان والقافية من الشعر العربي، كما اقتبسوا الاستعارات والتشبيهات والبديع من العرب. ¯
ق. ث
21 janvier 2010
Non classé