عـنـدمـا وطـئـت قـدماه أرض »الجـزائـر الفـرنـسـيـة » في ذلك اليـوم البعـيـد من شهـر جـوان سنة ١٩٥٣، لم يكن يـدور بـخـلـد ذلك الشخص ذي البشرة السوداء القادم من »الدوم توم » أن اسـمـه سـيـرتـبـط بـثـورة تـحـريـريـة كـبـرى، ثورة سـتـمـيـز النصف الثاني مـن القـرن العـشـريـن، وسـتـؤذن بانهيـار النظـام الاستعمـاري انهيارا أخيـرا.
»القـناع الأبيض » مـتـمـثـلا في جـنـسـيـة مـكـتـسـبـة لم يكـن يحجـب بشـرته السـوداء، ولا كان يلغي استعدادا يكاد يكون فـطـريا لـديـه في الاستجابـة لكل نـداء باسـم الكـرامة الإنسانية. »معركتي تكون حيثما أهينت كرامة البشر ». هـذا قـولـه وديـنـه، فلا عـجـب بـعـد ذلك أن يـخـطّ لـنـفـسـه خِـطـّة ما كانت أوراقـه الـرسـمـيـة الـمـمـهـورة بختم سلطات الجمهـورية الـرابـعـة لـتـحـول بينه وبين تـحـققـِها.
كان قادما من أراضي ما وراء البحار وعمالاتها الفرنسية، وجاء لـيـتـسـلـم منصـبه الجديـد كـرئيس لـقـسـم الأمـراض الـعـقـلـيـة بمستشفى جوان فيل (البليدة). كان اسمه فرانس فانون وكان في مقتبل العمر وكان وسيما. بعد أشهـر قـلـيـلـة، ستُزلزل »الجزائر الفرنسية » على ضربات »أبناء القديسين »، حسب عنوان كتاب أيـف كـوريـيـر. إنه الأول من نوفمبر .54 يـوم تصادف مع عيد الـقـديـسـيـن حسـب الـرزنامة الدينيـة المسيحـيـة أو عـيـد الأموات في تسمية أخـرى لطوائف نصرانية شرقية. كانت تلك ثـورة »الـملـعـونـيـن في الأرض » الـذيـن سيخلدهم هذا الطبيب النفساني القادم من المارتينيك في كتاب سـيـصـبـح من أكثـر الكتب السياسية ترجمة وانتشارا، كتاب سيجد مع ذلك الكثير من النكـران ومن الـتـعـتـيـم في جـزائـر ما بـعـد الاسـتـقـلال، لأنه احـتـوى في وصيته السياسية على نـبـوءة »ما كان يـجـدر بـه » أن يـحـتـوي عليها. الـنـخـب التي سـتـبـرز بـعـد استقـلال البلـدان الـمـسـتـعـمَـرة ربما لن تتمكن من مقاومة إغراءات الـنـزوع إلى الـتـسـلـط على شـعـوب تـدّعي أنها حررتها، وقـد تـتـحـوّل إلى كـومـبـرادوريـات مـنـقـطـعـة عـن شـعـوبها، وقد تلجأ إلى أساليب القـمع على نحـو ما كان قائما في الـعـهـد الاستعـماري لكي تـؤمّـن وجـودها واستمرارها. نبوءة تحققت.
كانت أحداث الـثـامن ماي 45 المفجعـة قد قضت نهائيا على كل تردد في القيام بـخـطـوة حاسمة كـثـيرا ما راودت الوطنيين الجـزائـريين، الشباب منهم بصفة خاصة. تلك الخطوة هي الانتقال بالنضال من طوره السياسي السلمي إلى العمل المسلح الثوري وانتزاع الحق السليب بالحديد والنار، كما سـيـعـبـر عن ذلك شاعـر الثـورة مـفـدي زكـريا في نـشـيـده الخالـد »قسما »:
يــا فــرنــســا قد مــضى وقـت الــعــتــاب
وطــويــنــاه كــمــا يــطــوى ألــكــتــاب
يــا فــرنــســا إنّ ذا وقــت الــحــســاب
فاســتــعــدي وخــذي مــنــا الــجــواب
كان هذ الطبيب القادم من جـزر الأنتيل مناهضا للاستعمار ومناهضا للفاشية وللعنصرية من أعمق أعماقه. وكانت مناقبه الخلقية والثقافية تجعل منه الشخص المرشّح لـتـجـسـيـد مثال أعلى، سـتـجـد فيه الشعوب المقموعة الناطق باسمها وباسم آمالها المكبوتة وأحلامها الدفينة. »في كل مـرة يعمـل شخص على انتصار العقل، وفي كل مـرة يقول شخص لا لاستعباد أخيه، تجدني متضامنا معه ». هذا الموقف سيترجمه فرانس فانون إلى موقف راسخ من كفاح الشعب الجزائري، وسيجد نفسه خالعا زيه الطبي ليتحول إلى سفير للشعب الجزائري لدى الشعوب الإفريقية إلى اليوم الذي سيتخطفه فيه الموت في أوج عطائه، أشهرا معدودة قبل انهيار النظام الاستعماري في الـجـزائـر. أما كـتـابـه العتيد »الملعونون في الأرض » الذي أهداه للشعب الـجـزائـري، فسيجعله معروفا على النطاق العالمي. إنه كتاب يشجب نتائج الاستعمار وآثارها على المستعـمَــر على المستويين النفساني والاجتماعي، وسيبقى وصية تتصدى لنوازع الهيمنة واستغلال الإنسان من طرف الإنسان. وقد نـشـر الكتاب بمقدمة لجان بـول سارتـر قبل أقل من شهر واحد من وفاة الثوري الأنتيلي العظيم.
في مقدمته لكتاب فرنس فانون، حـمـل مـؤلف »عارنا في الجـزائـر » بـشـدة على الاستعمار وعلى اليسار في الميتروبول غير مفرق بينهما. قال سـارتر ساخرا: »الـيـسـار في الميتروبول يـشـعـر بالحـرج. إنه لا يجهل مصير الأهالي الحقيقي ولا القمع بدون رحمة الذين يتعرضون له. إنه لا يـديـن ثورانهم، علما أننا فعلنا كل شيء من أجل التسبب فيه، ولكنه يعتقد أنه ينبغي أن تكون هناك حدود: إنه يتعين على الثوار أن يبرهنوا عن نبلهم، وسيكون ذلك أفضل برهان على أنهم ينتمون إلى بني البشر.. لقد انتبهوا منذ انطلاق حربهم إلى تلك الحقيقة المرة، وهي أننا كلنا متساؤون وكلنا استغللناهم، وليس لديهم ما يبرهنون عنه ولن يعاملوا أحدا معاملة خاصة. واجبهم الوحيد وهدفهم الوحيد هو طرد الاستعمار بكل الوسائل ».
كان فرانس فانـون قد حارب في صفوف فرنسا الحرة في الحرب العالمية الثانية ضد جحافل الهمجية النازية. وسيقول عن ذلك إن »سليل الرقيق تطوع لنصرة أبناء أولئك الذين استعبدوا أجداده ». وكان يـرد على أصدقائه ممن كانوا يقولون له إن هذه المعركة ليست معركته: »في كل مرة تكون فيها كرامة البشر وحريتهم في خطر، نكون معنيين، سواء أكنا بيضا أو سودا أو من الجنس الأصفر ». لكنه سيتكشف في أرض المعركة أن الفرنسيين لا يولون أدنى إهتمام لنصرة بني جلدته لهم وسيضطر إلى القول: »لقد أخطأت. لا شيء هنا يبرر قراري المتسرع في الدفاع عن مصالح المزارع، بينما هو لا يهتم للأمر ». في نهاية الحرب، يعود إلى الأنتيل ليتقدم للباكالويا ثم يرجع إلى ليون ليسجل نفسه في كلية الطب.
لدى وصوله إلى مستشفى جوان فيل للأمراض العقلية، سيجد فرانس فانون هذه المؤسسة مقسمة إلى قسمين، أحدهما مخصص للمرضى الأوروبيين والآخر للآهالي حسب النظرة الاستعمارية السائدة آنئذ. هذه النظرة طورها الأستاذ أنطوان بورو (1876 ـ 1965) فيما عرف بـ »مدرسة الجزائر » في علم النفس، ومختصرها أن المريض الميتروبوليتاني قابل للشفاء عكس نظيره من الأهالي المرشّح لكي يظل مريضا بسبب قصوره الفطري. وفهم فانون ان المرضى من الأهالي لا يستيجبون لمقاربة علاجية تعتمد النموذج الغربي، وأخذ في تنظيم »القسم العربي » على هذا الأساس، موظفا ما أمكنه ذلك العناصر التي يألفها المرضى في حياة مجتمعهم وفي بيئتهم كوسائل تساعد على الشفاء.
الأحداث ستتسارع، وسيجد فانون نفسه منغمسا في الثورة الجزائرية، وستتهمه الإدارة الاستعمارية بأنه حوّل جناحه إلى عنبر لمداواة »الفلاڤة »، لكنه سيأخذ المبادرة وسيستقيل من منصبه، وسيوجه للمقيم العام صاحب السمعة السيئة روبير لاكوست رسالة استقالته مضمنا إياها إدانته للواقع الاستعماري: »إذا كان علم النفس تقنية طبية تسعى إلى تمكين الإنسان من ألا يبقى غريبا في بيئته، فإن من واجبي القول إن العربي، ذاك المعتوه الدائم في وطنه، يعيش حالة قصوى من حالات فقد الشخصية ». وكذلك فإن »أحداث الجزائر هي النتيجة المنطقية لمحاولة فاشلة من محاولات حرمان شعب من ذكائه »، قبل أن يدين بشكل لا مراء فيه النفاق الاستعماري في الحفاظ على بعض الأقنعة الحضارية، ملاحظا ذلك »الرهان السخيف في الرغبة في الحفاظ بأي شكل على بعض القيم، بينما اللاقانون واللامساوة والقتل اليومي لبني البشر قد قامت كمبادئ للشريعة ».
هكذا غادر فرانس فانون حياته الهانئة والتحق بجبهة التحرير الوطني في تونس، وما عتم أنه عُـيّـنَ سفيرا متنقلا للثورة الجزائرية في إفريقيا وفي المحافل الدولية. لكن ذلك لم يقعـده عن الكتابة، فنشر لدى ماسبيرو »العام الرابع من الثورة الجزائرية »، أين يؤكد لا عودة الثورة الجزائرية إلا بتحقيق هدفها في استقلال البلاد، قائلا: »إنه الضمير الحي في الجزائر وكذا البؤس والقمع الجماعي هي من تجعل الشعب يتصرف في مصيره لا محالة ». »الأمة الجزائرية لم تعد بعيدة المنال… إنها تشكل مركز الإنسان الجزائري الجديد نفسه ».
في سنة 1960 يكشف تحليل طبي أن فانون مصاب بلوكيميا، ومعنى ذلك أن أيامه أصبحت معدودة. هكذا سيجند كل طاقته المتبقية لديه لكي ينجز وصيته السياسية »الملعونون في الأرض ». سيتنبأ فيها بزوال النظام الاستعماري من على وجه الأرض، وسيذهب إلى أبعد من ذلك عنما يخصص الباب الثالث منه لـ »مصائب الضمير الوطني »، محذرا من أن النزاع على السلطة وعلى الثروة سيؤدي إلى انتكاسة تعود بالأمة إلى الانتماء العرقي وبالدولة إلى القبيلة. وهذا ما تحقق في العديد من البلدان الإفريقية، حيث تحولت النخب الوطنية »صاحبة الفضل في تحرير شعوبها » إلى أوليغارشات نفعية تدور في فلك »الزعماء » الانقلابيين.
ب. علاوة
21 janvier 2010
Non classé