آداب: أمراء، فرسان وشعراء
ألـم تـرَ في خـنـق الـنـطـاح نـطـاحَـنـا
غـداةَ الـتـقـيـنـا كـم شـجـاعٍ لـهـم لـوى
وكــم هـامـةٍ ذاك الـنـهــار قــددتـُهــا
بـحـدّ سـيـفـي والـقـنـا طـعـنـه شــوى
وأشـقـرُ تـحـتـي كـَلِـمـتْـه رمـاحُـهــم
ثـمـان ولـم يـشك الـجـوى ومـا الـتـوى
ببطاقة الزيارة هاته الخليقة بفرسان الزمن الماضي، يقدّم الشاب عبد القادر نفسه في قصيدة من الحماسة والفخر، وهو لم يُبايَع بعد أميرا.
القصيدة، واسمها المقصورة، هي من أجمل قصائد ديوانه، وقد نظمها غداة معركة خنق النطاح، حيث دارت معركة شهيرة بقيادة والده سنة 1832 مع الفرنسيين، وكان هو فيها فارسا يشار إليه بالبنان. وخنق النطاح منطقة بوهران تعرف اليوم تحت اسم كارغانطا.
أشعار الأمير عبد القادر جمعها إبنه محمد ونشرها في القاهرة عام 1903 تحت عنوان »تحفة الزائر »، وضمنها أيضا سيرة الأمير وبعضا من تاريخ شمال إفريقيا. الديوان يضم 78 قصيدة، من بينها تلك المسماة حربيات وعددها 10 وهي الوحيدة التي نظمها بالجزائر خلال مقاومته الغزو الفرنسي، وتسمى أيضا الجزائريات. بقية الديوان نُظم خلال الأسر بفرنسا ثم خلال إقامته الطويلة بالمشرق.
في الحربيات، يسجل الأمير عبد القادر اللحظات الحاسمة التي عاشها، والظروف التي مرّ بها في مقاومته الإحتلال الأجنبي. ومن تلك اللحظات الخطيرة، لحظة دخوله مدينة تلمسان في شهر جويلية من سنة 1837 وقد خلّدها في قصيدة أسماها »لبّيكِ تلمسانَ »، وفيها يخاطب الأمير، كفارس من فرسان الحِمى، تلك المدينة وقد شبهها بحرّة من الحرائر في أسلوب كله رقة ودماثة:
إلـى الـصّـوْن مـدّت تـلـمـسـان يـداهـا
ولـبّـت فـهــذا حــســن صـوت نـداهـا
وذا روضُ خــدّيــهـا تــفــتـّــق نـــورُه
فـلا تـرض مـن زاهي الـرياض عـداهـا
إذا كان هناك من شاعـر عربي من بين القـدماء يقاسمه الأمير العديد من السجايا ويحبّ أن يـُقـارنَ به، فهو بلا ريب أبو فراس الحمداني الذي كان ديوانه »الروميات » يرافق الأمير عبد القادر، يحمله أنّى حـلّ وارتحـل. كلاهما شاعر وكلاهما ينتمي إلى أسرة نبيلة. كلاهما عُرف بصفته رجل سيفٍ ورجل قلمٍ. كلاهما حارب »الروميين »، البيزنطيين والفرنسيس، وكلاهما قضى سنوات من عمره أسيرا في بلاد العدو، القسطنطينية وباريس.
كثيرا ما كان النقاد ومتذوقو الشعر يقولون إن الشعر العربي قام بأميرٍ وسيذهب بأميرٍ، وهم يقصدون إمرؤ القيس (500 ـ 540 م) وأبا فراس الحمداني (932 ـ 968 م). الأول شاعر تعس أهلك نفسه وهو يجري وراء استعادة مملكة كندة، مملكة أبيه المُغتال، ليلقى هو الآخر حتفه تحت أسوار بيزنطا، والثاني شاعر أمير ومحارب جلود عرف نهاية محزنة في معارك من أجل وراثة العرش، بينما كان البيزنطيون يتهيأون للدخول إلى مملكته شمالي سوريا.
وبالطبع، فإن حكم النقاد هذا كان محدودا في الزمان وفي المكان، فهو لا يتجاوز القرن العاشر ميلادي، وكان محصورا بالمشرق. ذلك أنه سيولد في منطقة المغرب من البلاد الإسلامية وفي زمنين مختلفين شاعـران أميران من ذلك النسل النادر في الآداب العالمية. إنهما المعتمد بن عباد، أمير إشبيلية بالأندلس، والأمير عبد القادر الجزائري. أمير إشبيلية سيلقى حتفه في سجون يوسف بن تاشفين بالمغرب الأقصى، أما الأمير عبد القادر، فسيعرف السجن والنفي، لكنه سيرفض أن يُـتوّج سلطانا على العرب في أرض سوريا الغالية على صنوّه أبي فراس عندما ستطلب القوى الغربية منه ذلك ذات يوم. لقد فضل أن يواصل التعليم في جامع الأمويين الشهير ونظم الشعر وتأليف الكتب، على أن يصبح ألعوبة في يد قوى أجنبية أخذت تشحذ أسلحتها من أجل اقتسام تَرِكة الرجل المريض، تركيا العثمانية.
كانت الحياة الأدبية في المغرب خاملة خلال العهد العثماني. كان العصر حتى خروج العثمانيين عصر انحطاط كامل منذ سقوط الخلافة العباسية في بغداد، بل إن العوامل بدأت قبل ذلك بكثير، حين أخذت الإمبراطورية الإسلامية في التجزؤ والإنقسام. لم يعرف عن الأتراك ميلٌ إلى العلوم والآداب، كما كان الشأن خلال قسط من الخلافتين الأموية والعباسية. كان كلّ همّهم موجها إلى الفتوحات وإلى الحروب. كان النثر والشعر يغلب عليهما التكلف وسوء الصنعة، ولم يسلم شعر الأمير عبد القادر من بعض ذلك. أما العلوم، فقد اقتصرت على النحو والفقه، وحتى في هذين الحقلين، غلب النقل واستُبعد العقل. وعندما جاءت الجيوش الغازية من الغرب مدفوعة بشهية التوسع والإستعمار، لم تجد نظما سياسية واجتماعية متطورة في وسعها أن تقف في وجهها. ويقول المؤرخون إن الأمير عبد القادر قضى من الوقت في محاربة »إخوته » من أجل توحيدهم وجمع كلمتهم أكثر مما أنفق من جهد ومن وقت في محاربة الفرنسيس.
يظل ديوان الأمير مطبوعا بمسحة صوفية قوية. ويمتلئ ديوانه بأشعار صوفية رقيقة، حيث كان من المعروف عنه تلمذته لشيخ المتصوفة ابن عربي (القرن 11 م)، وقد أبى إلا أن يدفن إلى جواره في دمشق. أما قصائد الغزل القليلة في ديوانه، فقد خصّ بها حرمه ورفيقة حياته، وكان يناديها أم البنين. وحتى في تلك الأشعار الحميمة، لا يتخلى عن طبيعته كفارس ومحارب. من غزلياته:
تـُسـائلـنـي أمّ الـبـنـيـــنَ وأنـّــهـــا
لأعـلـمُ مـن تـحـت الـسـمـاءِ بـحالي
ألــم تــعــلمــي يـا ربّـة الـخِـدر إنني
أجـلي هـموم الـقـوم في يوم تجوالي
شدّ ما تذكّر هذه القصيدة بأبيات من معلقة عنترة ابن شداد الشهيرة وهو يخاطب عبلة:
هَلاَّ سأَلْتِ الخَيـلَ يا ابنةَ مالِـكٍ
إنْ كُنْتِ جاهِلَةً بِـمَا لَم تَعْلَمِـي
يُخْبِـركِ مَنْ شَهَدَ الوَقيعَةَ أنَّنِـي
أَغْشى الوَغَى وأَعِفُّ عِنْد المَغْنَـمِ
ومع ذلك، فهو لا يتجرّد من الأحاسيس الرقيقة، كما تبينه القصيدة التالية، وقد بعث بها من اسطنبول إلى حليلته في بروسة يبثها أشواقه وحنينه، حين كان يسعى من أجل الحصول على الإذن السلطاني له بالانتقال إلى الإقامة في دمشق. الأمير هنا كان قد ودّع الحرب وحومة الوغى، وودّع بلاده البعيدة الجريحة، وودّع الأسْـرَ في فرنسا. إنه يقول وما أجمل ما يقول:
أقــول لـمـحـبـوبٍ تـخــلّــف مـن بـعـدي
عـلـيـلا بأوجـاع الـفــراق والــبـــعــــد
أمـا أنــت حــقــا لــو رأيـت صـبـابـتـي
لــهان عـلـيـك الأمـر مـن شــدّة الــوجــد
ب. علاوة
21 janvier 2010
Non classé