الكاتب/ الشيخ عدون -رحمه الله- | |
06/10/2008 | |
اصطحبت أستاذي العلامة الشيخ بيوض إبراهيم في طريقنا إلى ميزاب لدى رجوعنا من الجزائر، فعجبنا يالإيالة الوهرانية فزرنا ناحية منها كانت طريقنا إلى الوطن، ولما لهذه الرحلة القصيرة من شأن وأهمية، حيث كانت كنظرة استطلاعية مستعجلة أعطتنا نموذجا مصغرا من تلك الناحية التي كنا نجهل حالتها، رأينا أن نشارك قراءنا الكرام فيما استفدنا ونعرض عليهم ما رأينا… وفي ذلك من الفوائد وخدمة الصالح العام وتمكين الصلات والروابط ما لا يخفى . كيف كان طريقنا ؟ خرجنا من الجزائر عشية الأحد 28 صفر، فبتنا في البليدة وامتطينا منها متن القطار صبيحة الإثنين إلى الأصنام، فوصلناها بعد الظهر، فأقمنا فيها كامل يوم الثلاثاء، وفي صبيحة الأربعاء امتطيْنا السيارة إلى غليزان، فوصلناها بعد ساعتين، وركبنا صبيحة الخميس إلى مستغانم، وعدنا إلى غليزان صبيحة الجمعة، وفي صباح السبت يممنا تيارت فخرجنا منها يوم الأحد إلى السوقر ؛ حيث انتهت زيارتنا فخرجنا منها صبيحة الإثنين توا إلى ميزاب، مارين على آفلو فالأغواط، وفي صباح الثلاثاء 7 ربيع الأنوار كنا في ميزاب. ماذا كان في طريقنا؟ رافقنا إلى البليدة العلامة الشيخ أبو اليقظان، فاجتمعنا بجماعة من إخواننا هناك فكانت ليلة زاهرة، طرقنا فيها عدة مواضيع إصلاحية وألقيت إذ ذاك أسئلة عديدة مختلفة، أجيبت بشرح كاف وبسط واف فكان الاجتماع جلسة علمية دراسية. وفي الأصنام تلقتنا الجماعة بكل حفاوة وإعظام، رأينا فيهم الكرم الفياض والخلق الكريم، والصلاح والتقوى، قد امتازوا عن سائر البلاد بالقيام بمسجدهم وعمارته، حيث أنهم يقفلون دكاكينهم كلهم عند صلاة العشاءين، ويؤمون جميعا المسجد، ولدى اجتماعهم يدرسون حزبين من القرآن الشريف ثم يصلون جماعة وهكذا دأبهم كل يوم. أقمنا معهم ليلتين ألقى عليهم الأستاذ في الأولى درسا بديعا في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنَ ـ امَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَءَاتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَىآ أُوْلَئِكَ أَنْ يَّكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾ [التوبة: 18]، وفي الثانية أقاموا لنا حفلة شيقة في مدرستهم فألقى عليهم الأستاذ -بعد انقضاء دورهم- محاضرة طويلة في موضوع التعليم ووجوب التضحية بكل شيء في سبيله، فكان لكلامه تأثير بليغ في نفوس المستمعين. وأما مستغانم فقد فاجأنا أهلها مفاجأة؛ إذ لم تكن في نيتنا زيارتها، حيث لم تكن في طريقنا ورغما عن ذلك فقد احتف بنا الإخوان هناك وبالغوا في إكرامنا، فطافوا بنا جميع أقسام المدينتين القديمة والحديثة على سيارات، وذهبوا بنا إلى البحر فأخذنا حظنا من السباحة فيه، وبعد تناول العشاء بمنزل بعض الإخوان ألقى الأستاذ درسا حث فيه على التضامن وإصلاح ذات البين والسعي في تأسيس مدرسة لتعليم أولادهم، وكان بعض المحسنين قد وقّف عليهم دارا يتخذون فيها مصلى لهم ومنتدى لجماعتهم ومدرسة لأبنائهم، فحرّضناهم على بناءها تنفيذا لغرض الواقف وسعيا في إزالة بعض العراقيل من طريقهم، وفي الصباح ودّعونا بكل حفاوة ورافقتنا جماعة منهم إلى غيلزان. وأما في غيلزان فقد لقينا من أهلها كل حفاوة وإكبار، سواء من إخواننا الميزابيين أو إخواننا الأهالي، رأينا منهم من الكرم الحاتمي والسخاء النادر، ومن الصفاء والتضامن والإخلاص، وإكبار شأن العلماء وتقديرهم حق قدرهم ما يفوق حد الوصف، فقد أقامت جماعة الميزابيين في مدرستهم حفلة بديعة استدعوا إليها نحو الثلاثين، من الأهالي من أعيان وذوات بارزة وشباب متنور، خطب فيها خطباء متعددون وبعد تداول الخطب ألقى الأستاذ خطابا بليغا بلسان عربي مبين، دام نحو ساعة ونصف في موضوع الوحدة، ضمّنه عظات وعبرا تاريخية وأدلة وبراهين على وجوب الاتحاد والتعاون صفا واحدا في سبيل خدمة الدين وإعلاء كلمة الله، وعلى أن مبادئ المذاهب لا تمنع من انضواء الكل متساندين جنبا إلى جنب تحت لواء لا إله إلا الله، ولا من الاتحاد والعمل جميعا لإعزاز شأن الدين وترقية الأمة ورفع كلمة الوطن تحت راية القرآن، بل توجب ذلك وجوبا، فمادام الدين واحد وأصوله واحدة، فالاختلاف في بعض جزئيات الفروع غير قادح بل هو رحمة وإن اتخذه الجهّال والمغرضون نقمة، وأفاض في الموضوع بما شفى الغليل وترك المستمعين مندهشين بما سمعوا، وتلقوا كلامه بالقبول والإذعان والإعجاب. ومن هناك أوينا إلى قاعة أخرى لتناول الغذاء فكانت المأدبة فاخرة، والأحاديث أثناءها شجية وبعد ذلك تلى أحد المجودين قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ…﴾ إلى قوله: ﴿وَأَمَّا الذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [آل عمران: 103-107]، فاقترح على الأستاذ تفسيرها، فشرحها شرحا بديعا أظهر فيه من إعجاز القرآن وأسراره وحكمه وبلاغته ما أبهر السامعين، وانفضّ الجمع على نحو الرابعة مساء. وفي الليل أدّب إخواننا الأهالي مأدبة فاخرة كانت مثالا للكرم الحاتمي العربي البدوي، إذ كانت في سرادق بديع؛ مضروب على أعمدة مرتفعة من جميع جهاته على شكل مظلة، مزدان بأنوار الكهرباء، مفروش بزرابي مبثوثة في ساحة خارج البلدة فسيحة، والهواء طلق والنسيم عليل، وكانت المائدة حاوية لكل ما لذ وطاب من مأكل ومشرب، وقد حضرها كل من حضر في الصباح وأكثر، وعلى إثرها ألقى الأستاذ درسا شرح فيه حديثا يتضمن حقوق المسلم على المسلم شرحا بديعا، بين فيه أسرار البلاغة النبوية وجوامع كلمها ثم جوّد مجود الصباح قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فيِ سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ اَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فيِ كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّاْئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمنْ يَّشَآءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فيِ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنفَقُواْ مَنًّا وَلآَ أَذىً لَّهُمُ, أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (262) ﴾ [سورة البقرة]. فطلب الأستاذ شرح ذلك فشرحه وبسط الكلام فيه وتفنن ما شاء له بيانه وبراعته، حث فيه على الإنفاق في المشاريع الخيرية وبالأخص العلمية منها، وعرّض فيه بالبخلاء الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، والذين يسعون في هدم هذه المشاريع أو في عرقلتها إرضاء لشحهم. فكان للدرس هوى في نفوس المستمعين فطربوا له أيما طرب، ثم ألقيت أسئلة عن بعض آيات أخرى ومسائل مختلفة، فكان الجواب على الكل شافيا كافيا يقنع السائلين ويزيد، وقد استطرد في بعض الأجوبة فذكر وجوب اعتزاز المسلم بدينه، وأن الدين لا ينافي المدنية بل يماشيها، وأن أوروبا المتمدنة لم تزل في مجموعها متدينة شديدة التمسك بدينها والتعصب له، فلا يتكبر أعظم موظف فيها أن يذهب إلى الكنيسة لأداء صلاته، خلافا لما عليه أبناؤنا اليوم إذ يرون التدين سبة وعارا، وقد أفاض في ذلك ما يقتضيه المقام، ولم نقم من هناك إلا بعد منتصف الليل بساعة ونصف. ومن حسن الصُّدف أن كانت زيارتنا لهذه المدينة بعد أن برحها الأستاذ ابن باديس بيومين، فكنا ننسج على منواله ونتمم بنيانه، لكن من الأسف ومن سوء الحظ أننا لم نجتمع معه في تلك الناحية. أما في تيارت فقد فاجأنا أهلها بقدومنا إليهم، لذلك لم نتمكن من الاجتماع بأعيانها إذ لم يكن لهم متسع من الوقت لاستدعائهم، وعلى الرغم من ذلك فقد اجتمعنا بالبعض منهم عشاء، وكانت ليلتنا معهم زهراء طرقنا أثناءها أدبيات ومواضيع هامة. ومن تيارت زرنا أطلال « تاهرت » فذكرتنا بما لدولتها الفخيمة من حضارة، واستبحار عمرانها وازدهاره أثناء تألق نجمها في سماء الجزائر واستواء بدرها في كبد سماءها، فلم يبق لذلك من أثر غير هذه الأطلال التي تنشد بلسان حالهم « تلك آثارنا تدل علينا ». فلم يبق منهم غير نشر حديثهم وما اكتسبوا من فعل محمدة وذم ومن هناك إلى السوقر حيث استقبلنا أهلها بكل حفاوة وإكرام، واجتمعنا فيها ببعض أفاضل الأهالي منهم الشاب الوطني الغيور الطيب عمر؛ القسنطيني الأصل، كانت لنا معه ساعة شيقة، رأينا فيها الشهامة والنبل والغيرة المتقدة والحماس الوطني والنخوة العربية والشدة على أهل البدع والخرافيين، وفي الوقت نفسه رأيناه مثالا لمكارم الأخلاق والتواضع ولين الجانب والوداعة إلخ. ماذا استفدنا من رحلتنا؟ استفدنا من هذه الرحلة التي لم تتجاوز أسبوعا واحد أن في الأمة استعداد تاما للنهوض والرقي، وكفاءة كافية لخدمة الإصلاحات وبالأخص التعليم، غير أنها محتاجة إلى رجال عاملين مخلصين، إلى من يأخذ بيدها ويتقدم بها إلى ميادين الأعمال الصالحة، وبعبارة أصرح إلى قيادة رشيدة حكيمة في كل بلدة وفي كل قرية، تلتف الجهود حول رايتها، وأن بذور الوفاق والألفة في أكثر ما رأينا قد أنبتت نباتا حسنا وأثمرت ثمارا طيبة وآتت أكلها ضعفين؛ وأن دعاة التفرقة وسماسرة السوء قد لقيت دعايتهم الخبيثة فشلا وخيبة، فلم يعد لمفعولها أثر يذكر إذ لم نشاهد إلا تضامنا وتكاثفا والتحاما والتئاما، وصفاء جو الوحدة الإسلامية، وسخطا عاما على دعاة الشقاق، وهتافا بحياة أنصار جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ومؤيديها، وبسقوط خاذليها ومناهضيها، كل ذلك من ثمار غرس هذه الجمعية المباركة، ومن سعي أمثال رئيسها الجليل وأعضائها المخلصين. إن الأمة في حاجة أكيدة إلى أمثال هذه الرحلات التي يقوم بها أمثال هؤلاء الدعاة المخلصين، حتى يزول منها تماما ما علق بها من الأوهام والأغلاط السيئة التي ينفث سمومها الدجاجلة والانتفاعيون وذوو الأغراض السافلة، فلرحلة واحدة في ظرف أسابيع، أعظم أثرا وأجدى نفعا من جريدة سيارة قائمة بوظيفتها عدة سنين، فليوجه المصلحون العاملون عنايتهم إلى هذه الناحية من الإصلاح فإنها أقصر مسافة وأضمن طريقة للنجاح وأجزل فائدة وأعم نفعا. وكل سعي سيجزي الله ساعيه هيهات يذهب سعي المحسنين هبا
|
23 mai 2009
Blogueurs